الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا؛ أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة وأين هذا من قول أكثر المتكلمين ولعل هذا المعترض منهم أنه لا معنى للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقوله من المتكلمين ثم نقول الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بأيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله.فصل:المسلك الثالث أن قريبا في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ومن ذلك قول الشاعر حسان:
فقال يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي» فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى كأنه قال استعمال هذين حرام وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية فيقول الملحد في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} أي معرفة حج البيت و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي معرفة الصيام وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس وكذلك إذا قلت أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة وليس منه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء النهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه.وإذا عرفت هذا فقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينص على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزوما فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة وأما قوله بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل اراد ببردى النهر وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر فإن قلت فلابد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر قلت هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه.وأما قوله: «هذان حرام» ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد بمفرده فتأمله فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا وإن قولهم: كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن كلا مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية.فصل:المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين أو لطف قريب أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر: المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة ومنه قول الآخر: أراد وأنت شخص أو إنسان صديق وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطالق وطال فقال كأنهم قالوا شيء حائض وشيء طامث.وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه:أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقاومة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره.الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول: جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا ولا تقول: سكت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان. الثاني: إن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق شيء حائض وشيء طامث وشيء طالق وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لابد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} إن المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهي بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ.بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها.فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله.الوجه الثالث: أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي.فإن قلت هذا خلاف مذهب سيبويه، قلت فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين هذه طريقة الخفافيش فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا وقليل ما هم ولا ريب أن أبا بشر رحمة الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بأضافه حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد.فإن قلت يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له فإن دخول التاء هاهنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الأرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى قوله: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء هاهنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة وأكد هذا المعنى بقوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا.
|